الشكل
والوظيفة والبعد التعبيري والبعد الاقتصادي والبعد الفقهي المعماري للمئذنة
ثمة
عدة أبعاد أو أوجه لحيثيات دراسة العمارة الإسلامية تتمثل في الوظيفة والشكل
والبعد الاقتصادي والبعد الفقهي المعماري والبعد التعبيري.
1.
المئذنة والشكل
(البُعْد المِعْمَاري الزُخْرْفِي)
يمثل هذا البعد
في دراسة المآذن في العالم الإسلامي بشقيه الوصفي والتحليلي أكثرَ الأبعاد التي
حظيت بالدراسة. وفي الحقيقة تمثل بقية أبعاد أو جوانب الدراسة (الوظيفة – البعد التعبيري
– البعد الاقتصادي – البعد الفقهي المعماري) العوامل المؤثرة في صياغة البعد
المعماري الزخرفي.
مآذن المساجد
الأولى في الإسلام بصفة عامة كانت بسيطة في التخطيط والتصميم المعماري، والمُرجح
أنها كانت غُفلاً من الزخرفة، وأنشئت المئذنة بهدف تأدية الوظيفة الرئيسية بصورة
مباشرة ومفردة.
تطور شكل المئذنة من كتلة بنائية بسيطة الاتفاع أعلى جدار
مسجد الرسول r إلى كيان معماري
مستقل مرتفع، على الأرجح مربع الشكل، يرقى إلى قمته المؤذن بواسطة درج خارجي
(أقتاب) بإحدى جهاته.
تتفق كتابات
المؤرخين والدراسات الأثرية على أن أقدم مئذنة باقية طبقاً للأدلة التاريخية هي مئذنة
جامع القيروان (ارتفاع
18.87متر، لوحة 1، شكل 1 "ر") من أعمال الوالي بشر بن صفوان (105-109ﻫ/724-729م).
وتعكس أقدم
المآذن الباقية بين شرق العالم الإسلامى (منارة قصر الحير الشرقي "حوالي 110ﻫ/730م"
ببلاد الشام)، وغربه (مئذنة جامع القيروان)، ومصر (مآذن جامع عمرو بن العاص طبقاً
للروايات التاريخية) أن التكوين المربع للمئذنة مثَّل النموذج للمآذن في العمارة
الإسلامية المبكرة، وانتشر هذا الشكل من المآذن في الشام والجزيرة العربية وإيران
ومصر وشمال أفريقية والأندلس، واستمر هذا الطراز من عمارة المآذن مميزاً لمآذن
شمال أفريقية والأندلس بصفة خاصة والمعروفة باسم الصومعة، ومنها مآذن الجامع
الكبير بصفاقس (235ﻫ/849م،
وتمت تعلية المئذنة فى سنة 378ﻫ/988م، لوحة 2) ، والكتبية بمراكش (580-595ﻫ/ 1184-1198م، لوحة 3)،
والجيرالدا (في الأصل مئذنة المسجد الكبير بأشبيلية، 580ﻫ/1184م،
وتحولت المئذنة إلى برج للأجراس بإضافة قمة جديدة سنة
1568،
لوحة 4)
بأشبيلية، جامع حسان بالرباط (593ﻫ/1197-1198م،
شكل 1 "أ" لوحة 5). وأصبحت المئذنة بتكوينها المربع
المميز رمزاً لمآذن بلاد المغرب العربي حتى في منشآتهم التنافسية الحديثة، كما نجد
فى التحفة المعمارية مسجد
الحسن الثاني (1993م) بالدار البيضاء بالمغرب، ومئذنته بارتفاع 210م.
ويلاحظ مع
بدايات العصر العباسي ثمة مرحلة جديدة تتسم بابتكار أشكال جديدة للمآذن؛ فظهرت طرز
إقليمية عكست الموروث الحضاري لكل إقليم، وخبرات أهل الصنعة فيه من المهندسين
والبنائين، وأثر توافر مواد خام معينة على تقنيات البناء، فضلاً عن تأثير المناخ
والبيئة، فظهرت في العراق المآذن الملوية بجامعي سامراء (234-237هـ/848-852م، ارتفاع
53م، لوحة 6)
وأبو دلف (245-247هـ/859-861م،
لوحة 7)
وانتقلت عنهما لمسجد أحمد بن طولون (263-265هـ/876-879م) بمصر(شكل 1 "ف"،
لوحة 8).
ونستطيع بعد
ذلك وعلى مر القرون التمييز بين تصميمات المآذن المختلفة باختلاف الأقاليم
والعصور؛ والثابت أثرياًّ أن تفاصيل تصميم المئذنة اختلف، ليس فقط من إقليم
لإقليم، أو من عصر لعصر، بل ومن مدينة لأخرى، بل وداخل المدينة نفسها. فهناك أكثر
من قاعدة أو محدد لتصنيف المآذن: الأول بحسب الإقليم وتتبع تطورها داخل الإقليم
تاريخيًّا، ويمكن وفق هذا المحدد دراسة مآذن مصر(لوحة 9، 13-33، 35-37)،
والشام، واليمن (لوحة
34، 42-47)،
وإيران (لوحة
50-51، 56)،
والأناضول (لوحة
39)،
والهند (لوحة
60-63)،
وجنوب شرق آسيا والصين (لوحة
11-59)،
وشرق وغرب أفريقية
(لوحة 12،64-66)، بالإضافة إلى شمال أفريقية (لوحة 1-7).
ويمكن تصنيف المآذن بحسب محدد آخر يتمثل في العصور أو الأسرات الحاكمة، وبحسب هذا
المحدد فتقسم طرز المآذن إلى المآذن الأموية (لوحة 1)،
والعباسية (لوحة
7-9)،
والفاطمية (لوحة
13-16)،
والأيوبية، والمملوكية (لوحة
21-27)،
والسلجوقية (لوحة
10)،
والمغولية (لوحة
60-61)،
والمآذن العثمانية (لوحة
67، 72-81).
وبالطبع ثمة تداخل واضح بين كلا نوعى التقسيم وفق المحددين سالفى الذكر، فضلاً عن
التأثيرات المتبادلة بين هذه الطرز من المآذن.
ويعنينا هنا في
المقام الأول أن مآذن كل إقليم أو عصر تشترك في مجموعة من الخصائص المحددة، والتى
جعلتها متشابهة فيما بينها، ومتمايزة عن مآذن الأقاليم أو العصور الأخرى في ذات
الوقت؛ وهذا ما يمكن التعبير عنه بخصوصية الوحدة، ووحدة الخصوصية في تفسير طبيعة
عالمية المئذنة، فعلى الرغم من الشكل العام للمآذن وبعض العناصر (بصفة خاصة قمة
المئذنة والهلال، شكل
رقم 1 "أ : ذ")، والوظيفة، وارتباطها بالمساجد،
وتأثيرها في التشكيل البصري العام تقريباً واحد ( مظاهر العالمية)، فإنها تمايزت
من مكان لآخر (الخصوصية المحلية أو الإقليمية) استناداً لعوامل عدة (شكل رقم 1 "أ :
ذ").
وليس هنا مجال دراسة رأسية أو أفقية لأي طراز من طرز
المآذن، ولكن سنعرض لأهم خصائص العالمية للمئذنة من حيث الشكل، وكيفية تطبيقها في
أرض الواقع في بيئات متباينة وفترات زمنية مختلفة، وأثر تباين هذه البيئات واختلاف
الفترات الزمنية على شكل المآذن وعمارتها مع الاستدلال بنماذج أثرية لتوضيح
الفكرة، وذلك في ضوء النقاط الآتية:
أ-
الارتفاع والبناء البرجي
ب-
التخطيط والشكل المعماري
ت-
مواد وتقنيات البناء
أ-
الارتفاع والبناء البرجي
تمثل هيأة الكيان المعمارى المرتفع للمئذنة (سواء على شكل
مربع أو أسطواني أو مخروطي) ما يجعله أشبه بالبرج السمة الرئيسية المشتركة للمآذن
في شتى أنحاء العالم، ولا شك أن هذه السمة تمثل واحدة من مظاهر العالمية للمئذنة.
مثَّل ارتفاع المآذن بصورة شاهقة سامقة في السماء، لاسيما
مع رشاقتها ودقة بنائها وزخرفتها، مثار إعجاب المؤرخين والرحالة، فعبروا في
كتاباتهم ووصفهم عن ذلك، وكذلك في رسوم الرحالة الأوربيين (لوحة 28-31).
ونورد هنا مثالاً لكتابات المؤرخين والرحالة عن مئذنة
جامع السلطان حسن (757-758ﻫ/1356-1357م) بالقاهرة البالغ ارتفاعها من الأرض 84
متراً(المئذنة الجنوبية الأصلية، لوحة 28) فيذكر تغرى بردى: "أن
هذه المدرسة ومئذنتها وقبتها من عجائب الدنيا وهى أحسن بناء فى
الإسلام"، وذكر
غيره من المؤرخين والرحالة المعنى نفسه بعبارات مختلفة، ومنهم المقريزى، والظاهري،
والنابلسي، والورثيلاني، ومن الأجانب بيتر ودي لافالليه (1616م)، ومسيو تيفنو (1657م) وغيرهم كثير. ونورد وصف إيفليا جلبي (1611- 1682؟، ورحلته الأخيرة شملت مصر في الفترة 1672-1680م) الرحالة التركي لمآذن جامع السلطان حسن بالقاهرة بما نصه:
"وللجامع مئذنتان عاليتان بنيتا على جدار جانبى
المحراب. وسقطت المئذنة اليسرى فى عهد إبراهيم باشا الدفتردار، فبنى مئذنة جديدة
على أساسها إلا أنها صارت أقصر من الأولى بطبقتين، وأما المئذنة اليمن فشاهقة،
تنور بخمس طبقات من المصابيح، وليست فى القاهرة مئذنة أعلى منها. يصعد
عليها بتسعين درجة من داخل المسجد حتى باب السطوح، ثم يصعد إليها بتسعين درجة أخرى
فى داخلها فمجموع درج السلم مائة وثمانون درجة إلا أن كل درجة منها نصف ذراع
معمارى. فقد صعدت إليها مرة، أنا الفقير، فمكثت ثلاثة أيام عاجزا عن الوقوف على
ركبتى. إنها لمئذنة شاهقة تقابل طبقتها الوسطى، حسب القواعد الهندسية، عتبة
باب القلعة الداخلية، فقياساً على ذلك يمكن معرفة مقدار ارتفاع القلعة ومبلغ جودة
هوائها".
وأصبح عامل
الارتفاع بالنسبة للمآذن مبالغاً فيه بما يتجاوز الغرض الوظيفي الرئيسي وهو
الإعلان للصلاة، لتؤدي دوراً تعبيريـًّا أكثر منه وظيفيـًّا. وأبرز المآذن الأثرية
المشهورة بارتفاعها مآذن جامع محمد علي (1246-1265ﻫ/1830-1848م،
لوحة35) بالقاهرة (بارتفاع 85 متراً من مستوى
أرضية المسجد)، قطب منار (595هـ/1199م- 626هـ/1229م، لوحة
54) بدلهي في الهند (ارتفاعها 73 متراً)، والكتبية (580-595ﻫ/1184-1198م، لوحة3) بمراكش (ارتفاعها 67,70 متراً).
ب-
التخطيط والشكل المعمارى للمئذنة
التخطيط. يمكن تصنيف المآذن بصفة عامة إلى نوعين: 1- مآذن مستقلة Free-standing، 2- مآذن مدمجة
أو ملحقة بالمساجد (وغيرها من الأبنية). وتنتشر نماذج النوع الأول بصورة كبيرة في
المنشآت الدينية بشرق العالم الإسلامى، مثل المآذن
السلجوقية في إيران (لوحة
50-51)
والعراق
(لوحة 48-49)
والمآذن الإيلخانية ومآذن خراسان وغزنة وباكستان وأفغانستان (لوحة 52-53،55) والهند (لوحة54). ومن أشهر مآذن هذا النوع مئذنة
جام بأفغانستان (587-594هـ/1191-1198م،
لوحة 52)،
ومئذنة قطب منار (595هـ/1199م- 626هـ/1229م، لوحة
رقم 4) بدلهي في الهند، ومنار علاء
الدين الخلجي في الهند.
بينما انتشرت المآذن الملحقة بصفة عامة
في بلدان المنطقة العربية، وشمال أفريقية والأندلس، والأناضول والبلقان.
وتخطيط المآذن إما مربعة أو أسطوانية أو مخروطية بالكامل،
أو تتكون من عدة طبقات (طوابق) متماثلة المسقط أو متباينة المسقط.
المآذن المربعة كانت سمة المآذن فى العمارة الإسلامية
المبكرة، وانتشرت في هذه الفترة المبكرة –كما سبق القول–
في الشام والجزيرة العربية وإيران ومصر وشمال أفريقية والأندلس، واستمر مميزاً
لمآذن شمال أفريقية والأندلس على وجه الخصوص.
وارتبط الشكل المخروطي للمآذن بالعمارة
في العراق وإيران وشبه القارة الهندية، وينطبق عليها ما ذكر عاليه عن المآذن
المستقلة. والمآذن السلجوقية في الأناضول كذلك تأثرت بالمآذن ذات الشكل المخروطي،
وتطورت عمارة المئذنة لتأخذ الشكل الأسطواني، والذى اعتمدته بعد ذلك العمارة العثمانية،
وبلغت
قمة تطور عمارة المئذنة العثمانية الأسطوانية في مآذن جامع السليمية (975-981ﻫ/
1568-1574م، لوحة 67) بأدرنة من عمل المعمار سنان.
وتميزت مصر والشام واليمن بالمآذن
متعددة الطوابق (الطبقات) حيث تتكون المئذنة عادة من قاعدة مربعة يعلوها طابقان (أو
ثلاثة) يختلف مسقطهما بين المربع والمثمن والأسطواني (والأخيران بصورة غالبة في
العصر المملوكي بالقاهرة)، ثم قمة المئذنة، وعادة تستدق المئذنة كلما اتجهت لأعلى (لوحة 21-27).
وجدير بالذكر أن ما سبق لا يعني بالضرورة اقتصار كل إقليم على نموذج محدد
لتخطيط وشكل المآذن دون غيره، ولكن هذا ينسحب فقط على السمة الغالبة أو الأكثر
انتشاراً بالقدر الذى يسمح باعتبار طراز ما للمآذن هو الأكثر شيوعاً في منطقة
بعينها.
وتمثل المآذن في
اليمن شاهدا على ما سبق، فرغم أن المآذن اليمنية بصفة عامة تتسم بالبساطة، وتتكون
من قاعدة مربعة يعلوها جزء ثانٍ أسطواني (أحياناً مضلع) ينتهي في قمته بشرفة
مستديرة يعلوه جوسق متوج بقبة (مثل مآذن المسجد الكبير603ﻫ/1206م لوحة 34، 46، وجامع
الأبهر1161ﻫ/1748م
لوحة 45 بصنعاء). وقد
يفصل بين القاعدة المربعة والبدن الأسطواني بدن مثمن كمنطقة انتقال (مئذنة مدرسة
صلاح الدين 1003ﻫ/1595م
لوحة 44
بصنعاء). وهناك مئذنة تبدأ من قاعدتها بمسقط مضلع وتستمر بنفس المسقط حتى قمتها،
وفي الجزء العلوي من المئذنة تستدق بصورة خفيفة (مئذنة العيدروس بعدن 890ﻫ/1485م وتمثل
أنموذجاً فريداً لوحة
43)
؛ إلا أننا نجد في اليمن كذلك طرزاً متنوعة من المآذن، فطراز مآذن مدينة صنعاء
اختلف عن بقية المدن اليمنية، مثل: تعز، وعدن، وزبيد، وحيس، وحضرموت، وسيئون،
وشبام، وجبلة، وآب وزمار وغيرها فكل مدينة من هذه المدن كان لها نمطُ خاصُّ في
بناء المآذن. فهناك المآذن المخروطية وهي متأثرة بالمآذن الغزنوية والسلجوقية،
وأهم نماذجها مئذنة "المنارة" وهي أحد أهم معالم مدينة عدن، وتقوم على
قاعدة منخفضة مربعة تقريباً، وتتخذ شكلا مخروطيا، وهناك عدد من مآذن عصر بني رسول
تتبع نفس التصميم "المخروطي". وهناك مآذن مربعة المسقط بالكامل ويصل
ارتفاعها حتى 40 متراً بارتفاع 8 طوابق (مئذنة مسجد طه وسط مدينة سيئون، لوحة 47).
وتمثل المئذنة
الأسطوانية العثمانية أنموذجاً ممتازاً يعكس طبيعة عالمية انتشار هذا العنصر
المعمارى من ناحية الشكل. وتتميز المئذنة العثمانية ببدنها الأسطواني الرشيق الذي يستدق بمهارة شديدة مع
الارتفاع وتنتهي بقمة مخروطية تشبه رأس القلم؛ ولذا عرفت بالمئذنة
"القلمية". والمئذنة العثمانية بسيطة في التكوين غفل من الزخرفة –خاصة
إذا ما قورنت بالمآذن المملوكية والسلجوقية والمغربية– وتستمد خصوصيتها من
رشاقتها، وارتفاعها الشاهق، وقمتها القلمية ، وشكلها الثابت الذي حافظت عليه إلى
حد كبير (لوحة
67).
ويمثل انتشار
المئذنة العثمانية (لوحة
35، 67، 72-81)
في العالم الإسلامي الذي خضع لسيطرة وحكم الدولة العثمانية ثلاث حالات تعكس طبيعة
سياسة وتطور تاريخ الدولة العثمانية، وذلك على النحو الآتي:
1- الأناضول
وتركيا والبلقان وجزر
البحر المتوسط وبحر إيجة والبحر الأيوني
2- مصر
والسودان وشمال أفريقيا وبلاد الشام والجزيرة العربية (الحجاز)
3- اليمن
في الحالة الأولى تمثل المئذنة العثمانية الطراز السائد
(مع وجود بعض الاستثناءات)، وعلة ذلك أن هذه الأراضي باستثناء الأناضول –لوجود
السلاجقة وإن مثلت العمارة السلجوقية أحد أهم الأصول للعمارة العثمانية– فتحتها
الدولة العثمانية واستقر لها الحكم لفترة زمنية طويلة انعكست على ازدهار العمران،
وكانت الدولة العثمانية أول حكم إسلامي مستقر في هذه البلدان فمثلت العمارة
العثمانية أول طراز معماري إسلامي فيها.
وفي الحالة الثانية تزخر هذه البلدان بموروث إسلامي محلي
قوي وذي جذور عميقة (العمارة المملوكية فى مصر والشام والحجاز، والمغرب الأندلس)،
ومن ثم استمر التراث المعمارى المحلي له الغلبة في هذه الأقطار؛ فنجد أن المئذنة
المملوكية استمرت بتكوينها المعمارى طوال العصر العثماني (مئذنة جامع البردينى 1038ﻫ/1629م، مملوكية الطراز والتصميم مع بعض
الملامح العثمانية، لوحة
82). ولم يمنع ذلك وجود المئذنة العثمانية
إلى جانب المئذنة مملوكية الطراز، كما ظهرت المئذنة المملوكية الطراز (تقريباً)
بالقمة القلمية العثمانية – فى الغالب تمثل إضافةً أو تجديداً– ما أدى لغلبة
المآذن ذات القمة العثمانية في القاهرة. وقد عبر الرحالة التركي إيفليا جلبي عن
هذا التأثير بوصفه للمآذن عثمانية الطراز في القاهرة بأنها مآذن على الطراز الإسلامبولى والرومى وطراز الجوامع التركية.
وفي الحالة الثالثة نجد في اليمن –رغم خضوعها للدولة العثمانية– إلا أن مآذنها في
العصر العثماني لم تتأثر بالمئذنة العثمانية القلمية؛ بل ظل الطراز المحلي اليمني
مستمرا في حالة استثنائية من بين البلدان التى حكمتها الدولة العثمانية، وفي
المقابل لم تخل المآذن اليمنية من تأثيرات مختلفة، منها العباسية والسلجوقية
والأندلسية والمصرية.
ومن الواضح أن هذه الحالات الثلاث لانتشار المئذنة
العثمانية عكست واقع سياسة الدولة العثمانية ونسبية مدى تغلغل نفوذها في هذه
البلدان وتقبل أهالي البلدان للحكم العثماني، فضلا عن تفاعل الموروث المحلي في هذه
البلدان مع الطراز العثماني الوافد، ولا يزال تتبع هذه الظاهرة يحتاج لمزيد من
البحث في تاريخ الدولة العثمانية وآثارها المعمارية في هذه الأقطار.
قمة المئذنة. تمثل قمم المآذن أحد أهم الوحدات التي أضفت صفة الوحدة
والعالمية على المآذن من حيث الشكل (شكل 1) وتشرح في ذات الوقت بصورة واضحة تنوع
هذه الوحدة وفقاً لمحدد زمنى (تاريخي) أو جغرافي.
تمثل قمة (خوذة، جربوش) المآذن التي تأخذ شكل قوس أو عقد
نصف دائري في القطاع الرأسي لقمم المآذن (سواء كانت القمة على شكل قبة، مبخرة،
قلة، شكل كمثرى)، بالإضافة للقمة المخروطية، والهلال المثبت أعلى القمة القاسم
المشترك لمعظم قمم مآذن العمارة الإسلامية في العالم بأسره.
وشكل الهلال أعلى قمم المآذن (شكل 1) يمثل القاسم المشترك –تقريباً– في جميع المآذن في العالم، والهلال في الغالب
مصنوع من النحاس، مثبت على جامور يشتمل على تفاحات (المآذن المملوكية، والحفصية
والمرينية في بلاد المغرب، والعثمانية) وقد يكون الهلال نتيجة تصميم القمة بصورة إنشائية
تأخذ شكل الهلال، كما هو في العمارة الفقيرة التقليدية في أفريقيا. ومن المرجح أن
وحدة الهلال كعنصر أعلى المآذن انعكاس لعامل آخر من عوامل الوحدة الإسلامية وهي
التقويم الهجرى (القمرى) ويرتبط به جميع المسلمين فى الصيام فى رمضان والأيام
القمرية (المعروفة بأيَّام البيض من كل شهر)، والأعياد. وتفسير ارتباط الهلال
بالمئذنة في سياق أن المئذنة استخدمت لاستطلاع الهلال في رمضان والأعياد، نظرا
لارتفاعها، مقبولُ ومنطقي، ويضيف لوظائف وأدوار المئذنة وظيفة جديدة.
وتمثل ظاهرة قمم المآذن متعددة الرؤوس المرتبطة بمآذن
نهاية الدولة المملوكية الجركسية في القاهرة (عصر السلطان الغوري وأمرائه، لوحة 27، 32) –كما سبق ذكره– شاهداً أثرياًّ على تنوع وحدة عنصر قمة
المئذنة وفقاً لمحدد تاريخي وجغرافي، وجدير بالذكر أن هذه المآذن متعددة الرؤوس
شملت –إلى جانب المآذن الجركسية المعروفة– مئذنة جامع محمد بك أبي الذهب (1188ﻫ/1774م، لوحة33) في العصر العثماني، وكانت قمة المئذنة تتكون من خمسة رؤوس
تطايرت، وبقيت قواعدها فوق الجوسق على هيأة خمسة قدور، ما يعطي دلالة للرابط
المشترك بين النماذج المملوكية صاحبة هذه الخاصية المعمارية، والنموذج العثماني في
محاولة إحيائها، والظاهر هو التأثير المكاني لموقعه أمام الجامع الأزهر وعلى بعد
خطوات من مدرسة الغوري، ويمكن تفسير ذلك في سياق البعد التعبيري كدلالة لاستعادة
نفوذ المماليك وأن أبا الذهب استمرار للسلطان الغوري.
والظاهرة الأخيرة التي تتعلق بالشكل تتمثل في تعدد
المآذن. تعود ظاهرة تعدد المآذن لفترة مبكرة؛ حيث تؤكد الروايات التاريخية وأقدمها
ما أورده ابن عبد الحكم (ت 257ﻫ/ 967م، كتاب فتوح مصر
وأخبارها) من أن الوالي مسلمة بن مخلد (53ﻫ/673م) أمر ببناء أربع صوامع (منارات) في أركان جامع عمرو بن العاص.
وأنشئت في عهد الوليد بن عبد الملك (86-96ﻫ/705-715م) أربع مآذن في مسجد الرسول r بالمدينة، وفي
الجامع الأموي بدمشق. والمرجح أن تعدد المآذن في هذه الفترة المبكرة كان لغرض وظيفي،
بحيث يصل الأذان لجميع الجهات حول الجامع، وارتبط ذلك بالتأكيد بتعدد المؤذنين، وفي
ذات الوقت لتمييز المسجد الجامع الذي تُقام فيه الصلوات الجامعة. وفي العصر
المملوكي ارتبط تعدد المآذن كذلك باعتماد الأذان السلطانى كما سبق القول، ولكن
يمكن القول إن انتشار ظاهرة تعدد المآذن بصفة عامة ارتبط بالبعد التعبيري بصورة
أكثر –سنشير إليه فى البعد التعبيري– واشتهرت ظاهرة تعدد المآذن بصفة خاصة في
الهند وإيران والمساجد العثمانية السلطانية.
وتمثل عمارة المساجد وأيضا الأضرحة في الهند
شاهدا أثريا على ظاهرة تعدد
المآذن؛ حيث ارتبطت بوظائف وأدوار أخرى فضلا عن الأذان، لعل أهمها تدعيم البناء في
مستوياته المتصلة بجدران المسجد، فنجد أن أغلب المساجد في الهند تحتوي على عدد زوجي
من المآذن 2 أو 4 أو 6 مآذن تكتنف أركان المسجد جميعها، أو ظلة القبلة، أو الصحن،
مع الاهتمام بواجهة ظلة القبلة المطلة على الصحن، ولم تقتصر هذه الظاهرة على
المساجد وإنما انعكست على منشآت أخرى أهمها الأضرحة، حيث تكتنفها عادة أربع مآذن
بزوايا البناء الأربعة، مثل ضريح تاج محل(لوحة 60)،
وضريح اعتماد الدولة بأجرا (لوحة
61).
فنجد بالمساجد
عادة أربع مآذن بزوايا ظلة القبلة –أو أربعة أبراج بزوايا ظلة القبلة– وأحيانا
تزيد مئذنتان أخريان –لتصبح بذلك ست مآذن– تكتنفان مدخل ظلة القبلة من الصحن مثل
المسجد الجامع في شامبانير (906هـ/1500م)
ومسجد برطاق بعليكرة (1235هـ/1826م)،
أو من الخارج، مثل المسجد الجامع بأجرا (1056هـ/1648م) وجامع إبراهيم
في حيدرآباد (لوحة
63)،
أو بزوايا صحن المسجد، مثل المسجد الجامع بعليكرة (1152هـ/1739م)
ومسجد وزيرخان في لاهور (1053ه/1643م)،
أو مئذنتان –فضلاً عن الأبراج الأربعة بأركان المسجد– على جانبي واجهة ظلة القبلة
المطلة على صحن المسجد، مثل المسجد الجامع بدهلي (1045هـ/1641م، لوحة 62)،
أو تقتصر على هاتين المئذنتين على جانبي واجهة ظلة القبلة المطلة على صحن المسجد
مثل مسجد فتحبوري بيجم بمدينة شاهجهان آباد شمال دهلي (1054ه/1650م)،
ومسجد زينة المساجد "غاتا مسجد"بدهلي (1122هـ/1710م).
والتكوين المعماري الغالب لهذه المآذن (المنارات) يتكون من طابقين كل منهما ذو
مسقط مثمن –وأحياناً طابق واحد– يعلوهما جوسق مثمن، كذلك يعلوه خوذة بصلية الشكل،
وتختلف عن هذا التصميم مئذنتا مسجد فتحبورى بيجم ومئذنتا مسجد زينة المساجد بدهلي،
فتتكون من أربعة طوابق مثمنة من الحجر الأحمر تستدق لأعلى ومتوجة بخوذة ذات قطاع
مدبب مفصص في مسجد فتحبوري وخوذة بصلية الشكل في مسجد زينة المساجد، وتتميز كذلك
مآذن ومسجد برطاق بعليكرة (1235هـ/1826م)
بتصميم فريد؛ فهي متماثلة، كل منها مكون من طابقين مضلعين وجوسق متوج بقبة،
والجديد هنا أن تضليعات بدن المئذنة بارزة، ذات قطاع نصف مستدير كذلك، وينتهي كل
ضلع منها في الطابق الثاني بأشكال جواسق صغيرة مثمنة مغطاة بقباب مدمجة في بدن
الطابق. وتستخدم هذه المنارات فضلاً عن الآذان، لتدعيم البناء في مستوياتها
المتصلة بجدران المسجد، واستخدمت أيضاً استراحات (مقاعد) لشيوخ المدرسة وزوارها من
الأساتذة والعلماء، وبعضها كتاتيب لتحفيظ القرآن.
ت-
المئذنة ومواد وتقنيات البناء
تمثل المواد الخام وتقنيات البناء أحد أهم
العوامل التي تميز مآذن كل إقليم أو كل مدرسة معمارية –إذا صح التعبير– عن غيرها،
كما أنها تعبر عن ثقافة البناء في فترة زمنية ما.
والمآذن في المساجد الأولى كانت مبنية
من الطوب اللبن. وأول مئذنة تبنى من الحجر في ضوء الروايات التاريخية هي مئذنة
جامع البصرة سنة 45ﻫ/
665م
كما أشرنا سابقاً.
ونجد الطوب اللبن والآجر والحجر تمثل
مواد البناء الرئيسية للمآذن، واستخدام هذه المواد مقرون بصورة كبيرة بحسب انتشار
استخدامها فى البناء بصفة عامة، وهذا يتباين ليس فقط من قطر لقطر أو من مدينة
لمدينة، بل وداخل المدينة نفسها يختلف من فترة زمنية لأخرى. فعلى سبيل المثال نجد
أن مادة الآجر -على الأغلب منذ بداية العصر العباسى– كانت المادة الرئيسة لبناء
المآذن في مدينة القاهرة حتى بداية العصر المملوكي تقريباً، ثم ساد البناء بالحجر خلال
العصر المملوكي، واستمر في العصر العثماني. في حين أن المآذن في الدلتا المصرية
مبنية من الآجر (لوحة
17-18)،
والبناء بالطوب اللبن في مناطق الواحات بصحراء مصر الغربية (لوحة 20)، والبلاد
الصحراوية في شمال أفريقية، وهذا مرتبط
كذلك بالبعد الاقتصادي كما سنشير إليه لاحقاً.
ونجد كذلك استخداماً مزدوجاً للمواد
الخام في البناء، وهذا شائع أكثر في البناء بالحجارة والآجر، ويكون السبب في
الغالب لضرورة إنشائية، مثل بناء الأجزاء العلوية من الآجر لتخفيف الأحمال،
ولسهولة استخدام الآجر مقارنة بالحجر في التغطية والعقود والزوايا.
وفى اليمن استُخدم الحجر في بناء مآذن منشآت
مدن صنعاء وتعز وزبيد وإب، بينما استخدم الآجر لبناء مآذن عمائر جبلة وعدن (لوحة 43)،
واستخدم الطوب اللبن والنورة في بناء مآذن حضرموت وسيئون.
واستُخدم بنسب متفاوتة زمنياً
ومكانياًّ كذلك الخشب والرصاص والحديد والنحاس،
حيث استخدم الخشب في بعض شرفات المآذن المملوكية، واستخدم الخشب والرصاص
بصفة خاصة لقمم المآذن العثمانية، واستخدم الحديد
لعمل دعامات أو سلالم داخلية، وإن كان على نطاق ضيق وحديث نسبياًّ، وبينما
يمثل النحاس المادة الخام الأقل استخداما في المئذنة حيث يُصنع منه الهلال أعلى
قمة المئذنة، إلا أنه يمثل القاسم المشترك الأوسع انتشاراً بين غالبية مآذن العالم
الإسلامى.
وتمثل كذلك التكوينات الزخرفية
والكتابية والمنفذة بمواد خام متباينة، مثل الآجر والقاشاني أو البلاطات الخزفية
أو الحجر أو الجص أحد المحددات فى تمييز أشكال المآذن من منطقة لأخرى ومن فترة
زمنية لأخرى.
كما تفسر
تقنيات البناء، وبعض العناصر والمفردات المعمارية، والتشكيلات والوحدات الزخرفية
حقيقة التأثير والتأثر بين مآذن العالم الإسلامى بعضها وبعض من جهة، وبينها وبين
آثار الحضارات الأخرى من جهة ثانية.
مئذنة
نافبكتوس (القرن
10ﻫ/16م،
التي أعيد بناؤها 1113ﻫ/1701-1702م) –تعرف
بمئذنة الوزير، وتقع بالقرب من قلعة نافبكتوس بمدينة وميناء باليونان، للأسف تهدم
الجامع بالكامل ولم يتبقَّ سوى قاعدة المئذنة–
أنموذج ممتاز لتوضيح فكرة طبيعة عالمية المئذنة كعنصر معماري أو كظاهرة
معمارية دالة وكيفية التطبيق ضمن بيئات متباينة. فنجد أن المئذنة –الجزء المتبقي
منها- منفذ بتقنية بناء بيزنطية محلية (لوحة 68). وهذه التقنية تعرف في فن العمارة
البيزنطية بالcloisonné ، وهي عبارة عن إحاطة كل قطعة حجر ببلاطة من
الآجر من جميع الجهات، وهذه التقنية تميز العمارة البيزنطية اليونانية، واستمر
تأثيرها في بعض نماذج العمارة العثمانية في اليونان.
وأُجمل القول
في عمارة المآذن من حيث الشكل (Form) أن المئذنة تمثل أهم ملمح مادي ثلاثي الأبعاد يعكس صفة عالمية الحضارة
الإسلامية بصفة عامة، والعمارة الإسلامية وعمارة المساجد بصفة خاصة، ورغم الوحدة
في أصل النشأة والوظيفة؛ فإنه مع اتساع الدولة الإسلامية، ثم تعدد الدول الإسلامية
في بيئات مختلفة ذات إرث معماري وحضاري ومواد خام وخبرات بناء وظروف مناخ متباينة
ظهرت طرز إقليمية متمايزة، وفي داخل كل إقليم استناداً لعوامل مؤثرة متعددة، ظهرت
كذلك أنماط متعددة، وإن اشتركت في السمت العام في المجمل إلا أنها تختلف في
التفاصيل، ونكرر أن هذا الإسقاط لمعنى العالمية حيث الملمح العام المشترك أو
المنهج المشترك –إن صح التعبير– يمثل القاسم المشترك بين النتاج المعماري في كافة
دول العالم الإسلامي، بينما تركت آلية التطبيق شاملة تفاصيل التخطيط والتصميم
والزخرفة وتقنيات البناء ... بحسب طبيعة وشخصية وإمكانات كل إقليم بما ينعكس على
هذا النتاج المعماري ويميزه من مكان لآخر بكل أريحية وطلاقة.
لقؤاءة بقية المقال فضلا اضغط على الرابط التالي
ردحذفhttp://universality-of-islamic-civilization.blogspot.com.eg/p/blog-page_30.html