مقدمة. عالمية
الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية
الإسلام دين عالمي للناس كافة في كل زمان ومكان، فهو ليس
لعصر دون آخر أو منطقة أو بيئة دون أخرى. والشواهد والأدلة من القرآن والسنة
النبوية عن عالمية الإسلام متعددة. ولعل من أبرز شواهد عالمية الإسلام منهج دعوة
النبي r في حياته متمثلة فى رسائله التي أرسل بها رسل إلى الملوك والأمراء
يدعوهم إلى الإسلام.
وارتبطت
صفة العالمية بالحضارة الإسلامية، من حيث انتشار ورواج مظاهر حضارية مادية وروحية
في شتى بقاع العالم، وتناولت دراسات سابقة لمفهوم العالمية في سياق دراسة عوامل تكوين
السمات المحققة لمفهوم العالمية، وتختلف هذه الورقة البحثية عن الدراسات سالفة
الذكر كما ذكرت في هدف البحث.
اتسمت
العمارة الإسلامية بصفة عامة، وعمارة المساجد بصفة خاصة، بخصائص عامة مشتركة عكست
عالمية رسالة الإسلام والحضارة الإسلامية. وفي الوقت نفسه اتسمت عمارة المساجد في
كل قطر –أو مجموعة من الأقطار المتشابهة في بيئتها الجغرافية والمناخية،
والمُشتركة في سياقها التاريخى والثقافي– بخصائص مميزة لها دون غيرها من المساجد
في الأقطار الأخرى (خصائص محلية) وذلك يعكس فهمًا فطريًّا لكيفية استيعاب وتطبيق
فكرة عالمية الإسلام؛ والتي لا تعني نسخ نموذج الجزيرة العربية مهد الإسلام
–متأثراً بالعادات والتقاليد والمناخ والموقع الجغرافي– كقالب ثابت
"للإسلام" في شتى بقاع العالم دون مراعاة خصوصية كل بقعة وفقاً
لإمكاناتها الطبيعية والبشرية والسياق التاريخي والحضاري. وبالطبع فإن هذه المرونة
في التطبيق وذلك الاختلاف الناتج عن تباين البيئة الجغرافية والمناخية والسياق
التاريخي والثقافي (الموروث المحلي) يراعيان عدم التعارض مع أركان الإسلام وحدوده
وقواعده الشرعية.
المئذنة
لا يهدف البحث
لدراسة المآذن دراسة معمارية سواء كانت دراسة أفقية أو رأسية، والدراسات في هذا
الصدد عديدة، وإنما يتناول البحث المئذنة بما يوضح فكرته الرئيسية، وهي طبيعة
عالمية الحضارة الإسلامية عبر دراستها كشاهد أثري معماري دال عليها. وفي هذا السياق يعرض البحث لمسميات المئذنة،
المئذنة والأذان، نشأة المئذنة، وذلك فى إشارة عاجلة مع الإشارة للمراجع عن هذه
النقاط، ثم دراسة المآذن في ضوء نماذج بما يوضح فكرة البحث، وذلك من حيث: الشكل
(عمارة وتصميم المآذن)، الوظيفة (الغرض من إنشاء المئذنة، والأدوار الثانوية التي
قامت بها المئذنة أحياناً في بعض المناطق)، البعد التعبيري، البعد الاقتصادي،
البعد الفقهي المعماري.
مسميات
المئذنة.
المئذنة تمثل تكوينًا
معماريًّا (بناء مرتفع) يُلقى منه الأذان للإعلان عن وقت الصلاة. وعرفت المئذنة
بأسماء أخرى هي: منار، منارة، صومعة، أسطوان، زوراء، مطمار. ومن هذه المسميات التي
استمرت – فضلاً عن المئذنة– منار بصيغها المختلفة (منارة، منارا)، وصومعة (في بلاد
المغرب بصفة خاصة). وتُذكر في الوثائق المملوكية باسم "ميدنة" وهي أقرب
إلى العامية المصرية.
ويعتقد Bloom أن مسمى "منار" هو المصطلح الأمثل للتعبير عن المئذنة
كرمز معمارى عالمي للإسلام. وعلى الرغم من الدائرة الواسعة للدلالة اللغوية، ومجالات
استخدام لفظ "منار"، إلا أنه يظل مقبولاً للدلالة على عالمية المئذنة
ككيان معماري.
المئذنة والأذان
والمؤذن.
من الثابت أن
الأذان جاء قبل المئذنة، وأن الأخيرة ككيان معماري أخذت اسمها من الأذان. والأذان
في حد ذاته –مرتبطاً بالمساجد والصلاة– يمثل واحدة من أهم خصائص عالمية الإسلام
وعالمية الحضارة الإسلامية؛ فالأذان يُرفع على مدار أربع وعشرين ساعة خلال اليوم
فوق قارات العالم جميعا، ليس فقط بلغة واحدة وهي العربية، بل وبصيغة واحدة غالبًا
(باستثناء صيغة الأذان عند الشيعة)، ويرفعه المسلمون على اختلاف لغاتهم وأجناسهم
وأماكنهم وثقافاتهم.
ويمثل المؤذن
الضلع الثالث في المثلث بجانب المئذنة والأذان. ومع تعدد المآذن وظهور دكك
للمؤذنين داخل المساجد، وتعدد وظائف المؤذن؛ وفضلًا عن الأذان والإقامة أضيف
التبليغ خلف الإمام، والتسبيح والتهليل والتكبير، وذكر حال الموت والقيامة، ومدح
النبي r ، وإنشاد السَّحَريات والفجريات والقصائد والمواعظ، ... صار هناك
عدد من المؤذنين داخل المسجد، ويتوقف هذا العدد بحسب عدة عوامل، ويُذكر بحسب وثيقة
السلطان حسن أنه كان بالجامع اثنان وثلاثون مؤذنًا حَسَنُو الصوت يرأسهم رئيسان "ريسان"
مأمونان عالمان بالمواقيت، يعملون على نوبتين، كل نوبة رئيس وستة عشر مؤذنًا. وتمثل
الوثائق المملوكية مصدراً ثريًّا بالمعلومات عن المئذنة ووظائفها والمؤذنين
وواجباتهم وحقوقهم.
نشأة المئذنة
المساجد الأولى
في الإسلام لم تكن لها مئذنة، وكان يُرفع الأذان للنداء للصلاة من أعلى أسطح
المنازل المجاورة للمسجد، ويؤكد ذلك ما رُوي عن امرأة من بني النجار: أن بلالًا
كان يؤذن للفجر من أعلى بيتها، لأنه كان أطول بيت حول المسجد، ثم أصبح الآذان يرفع
من أعلى سطح المسجد.
أما أول مئذنة
مبنية مستقلة في العمارة الإسلامية، فتختلف النظريات حولها وفقاً لاستقراء بعض الروايات
التاريخية، وهي كالآتي:
أن أول مئذنة
مستقلة بنيت في المسجد النبوي بالمدينة في عهد الخليفة عثمان بن عفان t استنادا لرواية المؤرخ يحيى بن الحسين (1035-1080ﻫ/1625-1669م تقريباً) في
غاية الأماني؛ ويؤخذ على هذا الرأي استناده لرواية ينفرد بها مؤرخ من أبناء القرن
الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي. وهناك الرأي القائل بأن أقدم ذكر لمئذنة
مبنية في المصادر التاريخية هو رواية البلاذري (ت 279ﻫ/892م) في
كتاب فتوح البلدان عن بناء مئذنة جامع البصرة، حيث ذكر البلاذرى نقلاً عن الوليد
بن هشام بن قحذم: "لما بنى زياد جعل صفة المسجد خمس سوارٍ وبنى منارته
بالحجارة" ، يقصد بناها والي العراق زياد بن أبيه سنة 45هـ/665م عند
تجديده للجامع الذى بُني سنة 14هـ/635م.
يلي مئذنة جامع
البصرة مآذن الجامع العتيق بمصر (جامع عمرو بن العاص بالفسطاط) حيث أمر الخليفة
معاوية والي مصر مسلمة ببناء أربع مآذن "صوامع، جمع صومعة" في أركان
المسجد الأربعة (53هـ/673م).
والقول في نشأة
المئذنة هل هي تطور معماري إسلامي محض بعيد عن تأثير أبراج الكنائس السورية، أم
تأثرت عمارتها بأشكال هذه الأبراج؟ تناولته دراسات عديدة عربية وأجنبية. وليس من
أهداف البحث مناقشة هذه القضية؛ ولكن أود أن أؤكد في هذا الصدد نقطتين ذواتي أهمية
، ولهما ما يؤكدهما من شواهد العمارة والفنون الإسلامية، وهما:
-
لا حرج في
اقتباس عنصر معماري لأداء وظيفة ما في العمارة الإسلامية؛ وقد يتم تعديله أو
تطويره وفقاً لمتطلبات الوظيفة، أو التطور الطبيعي للعمارة والفنون وفق المستجدات.
-
أن المحدد
الفصل في تفسير التخطيط والعناصر المعمارية هو الوظيفة، وهذا العامل يفسر لنا هذه
القضية، ويحل هذه الإشكالية.
الشكل
والوظيفة والبعد التعبيري والبعد الاقتصادي والبعد الفقهي المعماري للمئذنة
ثمة
عدة أبعاد أو أوجه لحيثيات دراسة العمارة الإسلامية تتمثل في الوظيفة والشكل
والبعد الاقتصادي والبعد الفقهي المعماري والبعد التعبيري.